دكتور محمد العاصي يكتب :
في نقاش حديث مع مجموعة من مصنّعي الأثاث في مصر، طُرح سؤال يلامس عصب الاقتصاد المحلي: “إذا كانت أسعار المنتجات في ارتفاع مستمر، فلماذا لا تنعكس هذه الزيادة على أجور العاملين؟“
الجواب ليس بسيطًا، ولكنه يكشف عن تحدٍ هيكلي لا يهدد أرباح المصانع فحسب، بل وقدرتها على الاحتفاظ بأهم أصولها: العمالة الماهرة. المصانع المصرية تجد نفسها محاصرة بين فكّي كماشة: تكاليف إنتاج “مدولرة” من جهة، وقوة شرائية محلية متآكلة من جهة أخرى.
دعونا نفكك هذه المعادلة الصعبة.
- هيكل التكلفة: الاعتماد على الواردات “المدولرة“
المشكلة تبدأ من هنا. قطاع التصنيع المصري يعتمد بشكل كبير على مدخلات إنتاج مستوردة. يشير البنك الدولي إلى أن حوالي 75% من واردات مصر هي مواد خام وسيطة تُستخدم مباشرة في عمليات الإنتاج. هذا يعني أن أي صدمة في سعر صرف الدولار تترجم فورًا إلى ارتفاع في تكلفة الإنتاج.
في صناعة الأثاث، هذا الواقع يتجسد بوضوح. يعتمد المصنعون بشكل أساسي على الخشب المستورد. ففي عام 2023 وحده، استوردت مصر ما قيمته 1.27 مليار دولار من الأخشاب (البند الجمركي 44).
النتيجة؟ المكون الرئيسي في التكلفة مُسعّر بالعملة الصعبة، مما يجعل المصانع تحت رحمة تقلبات أسواق الصرف العالمية.
- السوق المحلي: طلب محدود لا يتحمل المزيد
في الجانب الآخر من المعادلة، نجد المستهلك المحلي الذي تآكلت قدرته الشرائية بفعل موجات التضخم العالية. بعد أن وصل التضخم إلى ذروة 38% في سبتمبر 2023، ظل في مستويات مرتفعة خلال 2024 و2025.
هذا التآكل في “الدخل الحقيقي” يضع سقفًا منخفضًا لقدرة السوق على استيعاب أي زيادات جديدة في الأسعار. ببساطة، المصنع لا يستطيع تمرير كامل الزيادة في التكلفة إلى السعر النهائي.
النتيجة المحاسبية: ضغط مزدوج يؤدي إلى نزيف المواهب
عندما ترتفع تكاليفك بنسبة 30%، بينما لا يمكنك رفع سعر بيعك إلا بنسبة 10%، فإن ما يتآكل مباشرة هو هامش الربح.
في هذه البيئة التشغيلية الصعبة، وحتى لو حدثت زيادات طفيفة في الأجور الإسمية، فإنها غالبًا ما تكون أقل من معدلات التضخم. والنتيجة الحتمية هي أن القيمة الحقيقية للأجور – أي قدرتها الشرائية الفعلية – تستمر في التناقص.
هنا تكمن الكارثة الحقيقية: العامل الماهر، الذي يرى قيمة راتبه تتآكل شهرًا بعد شهر، يبدأ في البحث عن فرص أفضل، إما في قطاعات أخرى أو خارج البلاد. وهكذا، تخسر المصانع كوادرها المدربة التي تمثل العمود الفقري لجودتها وإنتاجيتها.
إذًا، ما هو المخرج؟ الحل في التوجّه للخارج.
الحل الجذري لا يكمن في محاولة الضغط على السوق المحلي أكثر، بل في الخروج منه نحو أسواق جديدة. الحل هو إدماج المصانع المصرية في سلاسل القيمة العالمية (Global Value Chains – GVCs).
عندما يبدأ المصنع في التصدير، فإنه يحقق أمرين استراتيجيين:
- تحصيل إيرادات بالدولار: مما يخلق توازنًا مع التكاليف المدولرة ويسمح بدفع أجور مجزية قادرة على الاحتفاظ بالكفاءات.
- الوصول إلى أسواق أوسع: ذات قدرة شرائية أعلى.
تُظهر أدبيات البنك الدولي أن كل زيادة بنسبة 1% في درجة المشاركة في سلاسل القيمة العالمية ترتبط بزيادة تتجاوز 1% في متوسط دخل الفرد.
الخلاصة: الطريق لوقف نزيف العمالة الماهرة ورفع الأجور الحقيقية يمر حتمًا عبر تنويع أسواق البيع وتحصيل إيرادات بالعملة الصعبة.
#تصدير #تجارة_دولية #أسواق_جديدة #استراتيجيات_التوسع #تسويق_دولي
استشاري التجارة الدولية
ودكتور الاقتصاد بمعهد راية العالي للإدارة والتجارة الخارجية
عن الكاتب: الدكتور محمد العاصي هو استشاري التجارة الدولية بخبرة تزيد عن 18 عامًا في تعزيز القدرات التصديرية للشركات الصغيرة والمتوسطة في الأسواق العالمية. نزيف الكفاءات